الأبعاد السيكولوجية والاجتماعية للعيد
بقلم : يوسف باجا
علم النفس الاكلينيكي
نعتاد العيد فيعود ويتكرر كل سنة، ذلك هو العيد.
كما نعلم فإن للمسلمين عيدين، عيد الفطر، وهو أول يوم من شوال. وعيد الأضحى، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة.
فبعد تأدية شهر رمضان في الصيام وفعل الطاعات لأجل التقرب إلى الله تعالى ونيل الآجر والثواب، تأتي فرحة العيد حيث يحتفل به لمدة ثلاثة أيام متتالية.
تظل مناسبة العيد من المناسبات التي تدخل البهجة والسعادة على مختلف فئات المجتمع كبارا وصغارا.
إن مختلف سلوكات الأفراد داخل المجتمع تنبني وترتكز على العواطف والأحاسيس، فالإحساس بالفرح يدعم البعد النفسي الاجتماعي خاصة في وقت الأزمات والطوارئ، وتضمن مجموعة من الدعامات النفسية الاجتماعية التي تعتبر بمثابة الخطوة الأولى نحو الاستقرار النفسي الاجتماعي.
إن الأزمة التي طالت مختلف فئات المجتمع ومؤسساته، وبالأخص في فترة جائحة كورونا قد أسهمت في إدخال مجموعة من الأفراد في حالات اكتئاب وقلق، لكن حلول مثل هذه المناسبات والأعياد السعيدة تساعد على التطور الإيجابي لذواتنا من خلال إدخال مشاعر الفرحة والبهجة إلى نفوس البشر، فالفرد في علاقته مع أفراد بيئته ومجتمعه يكون أكثر إيجابية للظروف وللمتغيرات الاجتماعية، إضافة إلى أن تلك الأجواء تجعل الفرد أكثر إدراكا وبغية لتطوير سلوكاته، ولذلك فإن عملية التكيف الاجتماعي والاندماج الحاصل في مثل هذه المناسبات لا يمكن أن تتم إلا إذا كان هناك تكيف واندماج نفسي، وبهذا فأثر العيد يتعدى البعد الاجتماعي إلى البعد النفسي فهو غالبا يجعل الفرد يعيد النظر في أسلوب عيشه وطريقة تفكيره. بدل أن يكون مجرد يوم سعيد في السنة يفكر في أن يسطح فرحته وسعادته في غيره من الأيام بل وحتى الشهور والأعوام. إننا نلاحظ أنه رغم التفوق والتقدم العلمي، نحن نفتقر إلى سبل الارتقاء إلى ما يمكن أن تبلغه الحكمة الدينية في مختلف تجلياتها.
في العيد تتوطد العلاقات وتحلو اللقاءات والزيارات وتعزز أواصر المحبة والألفة في المجتمع.
العيد يتميز بعدد من الطقوس الدينية والاجتماعية دون باقي أيام السنة، فبين موروثات الماضي وعصرنة الحاضر، ما زلنا نحافظ على رونقه وأصالته، حيث نجد اختلافا بين مظاهر العيد من بلد إلى آخر من حيث العادات والتقاليد التي تمارس احتفاء أو تعظيما لهذه المناسبة، لكن تبقى صلاة العيد، وزيارة الأرحام، تبادل التهاني والتبريكات، وفرحة الأطفال بثياب العيد الجديدة، إضافة إلى تجهيز ألذ الحلويات والمأكولات، أهم المظاهر التي تتوحد فيها مختلف الشعوب المسلمة في مختلف مناطق العالم.
تصمد العادات والتقاليد أمام التغيرات التي تجتاح البلدان، فالميل نحو التقليدي يطغى على ما تعرفه الحياة من صناعات خارجية حديثة وعصرية.
كل هذه المظاهر تدخل البهجة والفرح على النفوس، فالعيد فرصة عظيمة لأجل صلة الرحم والتعبير عن المشاعر ومحبة الناس بعضهم البعض، حيث يتجاوز الشخص عمن أساء إليه بكل رضا ومحبة وتسامح.
بكل هذا تتوطد أواصر المحبة والترابط الاجتماعي في المجتمعات، لذا لا يمكن أن ننكر ما لهذه المناسبات من أهمية في إرساء التكافل الاجتماعي والمساعدة على انسجام الناس وتواصلهم، وكذا تحسين العلاقات فيما بينهم. فبابتسامة صادقة في وجه الآخر، وبإلقاء تحية أو تهنئة، يمكن أن نحقق الكثير، يمكن أن نقلص من العنف ومن المشاحنات، ونساهم في بناء مجتمع مستقر خال من الأمراض النفسية والسلوكات السلبية.
لقد ركزت الدراسات الحديثة النفسية والسوسيولوجيا منها على أهمية إدخال الفرحة على النفوس، كل ذلك لأجل تأمين حياة اجتماعية ونفسية خالية من الاكتئاب، ومن المشاحنات التي تعود بالسلب على المصلحة العامة للعباد وتعرقل السيرورة الطبيعية للحياة.
ففي علم الاجتماع يعتبر العيد من وسائل الترويج الفعال لأجل تنفيس الكربات والمساهمة في تماسك المجتمع، ذلك باعتبار الإنسان كائنا اجتماعيا بفطرته، فحاجته إلى الاتصال والتواصل مع الآخر حاجة أساسية فطرية، توازي حاجته إلى الطعام والشراب، وبدون هذا الاتصال والتواصل يدخل الفرد في معاناة نفسية بل وحتى بدنية قاسية، ما يقوده إلى الانهيار والدخول في حالات مرضية حرجة، تعود بالضرر على الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه.
فقد أكد مجموعة من علماء النفس والاجتماع، أن الفرد في حاجة ماسة لمثل هذه الأفراح والمسرات لتفريغ المكبوتات والضغوطات، وتسريح جوانب كثيرة من الرغبات الدفينة، لاستعادة شعوره بالحياة الطبيعية المتوازنة، وبعث الأمل والتفاؤل حيث تتقوى المهارات والقدرات الاجتماعية والعاطفية، مما يساعد لا محالة في الدفع إلى الأمام والتغيير إلى الأفضل.
إن طقوس العيد تمثل شكلا من أشكال العلاقة الاجتماعية التي تربط المجتمعات معا، حيث أن التجارب المشتركة مثل هذه الاحتفالات بالأعياد الدينية تساعد في خلق شعور وأحاسيس توحد جميع أفراد المجتمع. من هذا المنطلق يمكن القول إن أهمية الأعياد كمناسبات اجتماعية تعمل على لم الشمل، وتجميع ما فرقته الأيام العادية مما يعيد للنفوس توازنها، ويحقق للمجتمع استقراره وتماسكه.
فالأعياد بصفة عامة تزود الأفراد بطاقة جديدة لاستئناف السير ومواصلة الكفاح في الحياة، وبلا شك أنها فرصة لتوديع الهموم والأحزان والترويح عن النفس وتقوية التراحم والتواصل الاجتماعي. ومن هذا المنطلق فإن ممارسة مثل هذه الطقوس الاحتفالية، تصاحبها عمليات من التعديل والترميم النفسي والاجتماعي، بما يتحقق للأفراد من إشباعات لحاجات رمزية، فينسد جانب من الثغرات، وتقع معالجة جانب كبير من الإرباكات والتمزقات التي تواجهها الجماعة في محيطها المحلي، وتقدر الجماعة المحلية من ثمة بواسطة الممارسات الطقوسية، على أن ترتقي بما هدمته التغيرات الاجتماعية العميقة، وما أحدثته من شروخ نفسية وفوارق في روابطها الاجتماعية ووجدانها الجمعي.
ثمة حقيقة يجب تأكيدها وهي أن الأعياد ليست ضربا من الترف الثقافي أو الممارسة المفرغة من المعنى، وإنما هي فعل جماعي يتوهج بالمعنى، وذلك نظرا لما يتضمنه من فعالية ونجاعة، فتضمن لممارسيها نوعا من الراحة النفسية والسمو، لا تستطيع رتابة الحياة اليومية أن تمنحهم إياهما. كما لا ننسى أنها تسمح لهم الدخول ولو مؤقتا في حالات ذهنية سارة، إننا ندرك دلالة العيد الاجتماعية لما تتيحه للذات من فرصة بأن تعيش زمن السعادة وتجديد الإحساس بالعودة إلى الأصول، ومن هذا يمكن أن نضع حالتنا النفسية في كل عيد موضع الصفر ونبدأ من جديد، فهناك قوى الأصل التي تحدث عنها عالم الاجتماع بير بورديو الهابتوس وهو يحدثنا عن قوة الأصل في الوسط الاجتماعي، وهي أيضا دعوة منه إلى التقريب بين الحتمية الاجتماعية من جهة والفرد من جهة ثانية. إننا نسعى دائما إلى كشف المشترك في البحث عما هو فردي، فالبنيتان الداخلية والخارجية، هما صورتان لحقيقة واحدة للتاريخ المشترك، ذلك التاريخ المنقوش في الذات وفي الأشياء.
فكم يحتاج العالم لمثل هذه المناسبات السعيدة لزرع السكينة في النفوس، وملأ المكان بالسعادة والسرور حتى نستمتع بعالم مريح تحلو فيه الحياة