التعاقد في التربية الوطنية مشكلة في القانون أو مشكلة في الفهم

التعاقد في التربية الوطنية  مشكلة في القانون أو مشكلة في الفهم

 

التعاقد في التربية الوطنية

مشكلة في القانون أو مشكلة في الفهم

عبد الله الجباري

منذ سنوات خلت، وثلة من رجال ونساء التعليم يناضلون ضد التشغيل بالتعاقد في هذا القطاع الاستراتيجي والاجتماعي، وقد استمر هذا الحراك الاحتجاجي إلى يومنا هذا، حيث نسمع شعارات رافضة للتعاقد ومطالبة بإدماج المتعاقدين في قانون الوظيفة العمومية.

فكيف وقع التعاقد؟ وما هو تأصيله القانوني؟ وهل يوجد اليوم في المنظومة التعليمية؟

غني عن البيان أن قطاع التربية الوطنية مؤطر بنصوص قانونية رئيسة، إضافة إلى مراسيم وقرارات ومذكرات أخرى، والنصوص القانونية الرئيسة هي قانون الوظيفة العمومية الصادر سنة 1958 مع ما تلاه من تعديلات وتغييرات، والقانون الإطار للتربية والتكوين 2019، ومرسوم النظام الأساسي (2023) وهو النظام الأساسي المجمد سياسيا والمفعل قانونيا في أغلب مواده.

ونظرا لورود عبارات “الموارد البشرية” إضافة إلى عبارة “قطاع” في عنوان المرسوم، فإن كثيرا من رجال ونساء التعليم توجسوا خيفة من إخراج قطاع التعليم من القطاع العام الخاضع لقانون الوظيفة العمومية إلى القطاع الخاص، وتبعا لذلك، صار من المألوف أن نسمع عبارات من قبيل أن الجميع صار متعاقدا، وأن الشغيلة التعليمية خرجت عن بكرة أبيها من تحت عباءة “الوظيفة العمومية”، وحري بنا أن نتساءل: هل بمقدور المرسوم ــ وهو لا يرقى إلى مستوى التشريع ــ أن يُخرج الشغيلة التعليمية من ذلك القانون؟ وهل له هذه القوة التشريعية؟ لأنه من المعلوم أن القانون التشريعي لا يمكن أن ينقضه إلا قانون له قدرة تشريعية كما هو منصوص عليه في الفصل 71 من الدستور.

بناء عليه، نتساءل مع المتسائلين: هل رجال ونساء التعليم موظفون أو متعاقدون؟

مفهوم الموظف:

لمعرفة مفهوم الموظف في القانون الإداري، يجدر بنا أن نطالع الفصل الثاني من قانون الوظيفة العمومية الذي يقول بالنص: “يعدّ موظفا كل شخص يعين في وظيفة قارة ويرسَّم في إحدى رتب السلم الخاص بأسلاك الإدارة التابعة للدولة”.

وبناء عليه، فإن المرء لا يعدّ موظفا عموميا إلا إذا توافرت فيه ثلاثة شروط:

الشرط الأول: تعيينه في وظيفة قارة.

الشرط الثاني: الترسيم في رتبة من سلم ما.

الشرط الثالث: أن يكون تعيينه في إدارة عمومية تابعة للدولة.

إذا رجعنا الآن إلى الأساتذة الذين يطلق عليهم (المتعاقدون) أو (الذين فرض عليهم التعاقد) فإننا نجدهم جميعا ينتمون إلى إدارة تابعة للدولة (الأكاديمية)، ولهم وظيفة قارة (أستاذ)، ومرسمون في رتبة من سلم إداري (بالنسبة لمن استقبل المفتشين وتم ترسيمه)، وبناء عليه، فإن وصفهم بالمتعاقدين هو وصف مجانب للصواب، وهو إما جهل بالقانون أو تضليل يمارسه بعض ذوي الأجندات من متفنني التأزيم المجتمعي الذين يستثمرون في الاحتقان ولا ينتعشون إلا بوجوده.

قد يترافع المخالف بدَفْعٍ قد يبدو له وجيها، ويتشبث بوصفهم متعاقدين بناء على أن رقمهم المالي مرتبط بالأكاديمية وليس بالوزارة المركزية.

وهذا الدفع قد يستقيم جماهيريا في إطار التعبئة والاحتجاج، لكنه لا يستقيم من الناحية القانونية، لأن الفصل المذكور من قانون الوظيفة العمومية لا يشترط في تعريف الموظف ارتباطه بالإدارة المركزية من حيث الرقم المالي والأجرة، ومن ادعى أن هؤلاء الأساتذة متعاقدون بدليل أن رقمهم المالي جهوي غير ممركز، فليدلنا على دليل ذلك من النصوص القانونية.

التشبث الأرثوذوكسي بقانون الوظيفة العمومية:

تقاطرت على أسماعنا في الآونة الأخيرة تصريحات تترى تطالب بالتشبث بقانون الوظيفة العمومية، ظنا من أصحاب هذه التصريحات أن التشبث به هو الملاذ والحصن المنيع، دون أن يدركوا مخاطر هذا التشبث وسلبيات هذا الاحتماء.

لا يدري هؤلاء المتشبثون بهذا القانون أن التعاقد في الأصل كان بناء عليه واستنادا إلى بنوده، فهم يناضلون من أجل التمسك به، وفي نفس الوقت يناضلون رفضا لبنوده.

في الفصل السادس المكرر من قانون الوظيفة العمومية نجد الآتي: “يمكن للإدارات العمومية عند الاقتضاء أن تشغل أعوانا بموجب عقود، وفق الشروط والكيفيات المحددة بموجب مرسوم”، ثم يضيف: “لا ينتج عن هذا التشغيل في أي حال من الأحوال حق الترسيم في أطر الإدارة”.

وهذا الفصل لم يندرج ضمن بنود قانون الوظيفة العمومية إلا في التعديل الصادر سنة 2011، ولعله هو المعتمد لدى وزارة الأوقاف التي استعملت المتعاقدين قبل القطاعات الأخرى، وهو البند الذي استند عليه الوزير بوسعيد في عهد حكومة عبد الإله بنكيران من أجل توظيف المتعاقدين في قطاع التربية الوطنية.

وبناء على النص أعلاه، فإن الأساتذة الذين سبق تشغيلهم بالتعاقد كانوا يوصفون بـ”الأعوان”، ولا ينطبق عليهم مدلول “الموظف” كما عرفه الفصل الثاني أعلاه.

فهل مع هذا النص الصريح والواضح يحلو لرجال ونساء التعليم الزواج الكاثوليكي بهذا القانون؟ وهل يدركون مخاطر تشبثهم به وكوارثه؟

التخوف من عبارة “الموارد البشرية”:

أثناء ترافع رجال ونساء التعليم ضد النظام الأساسي، استدلوا بعبارة “الموارد البشرية” الواردة فيه، وجعلوها قرينة دالة على تحويلهم نحو القطاع الخاص، وأن هذا أمارة من أمارات التغول الرأسمالي والإمبريالية، مستعينين ببعض التوصيفات التي ماتت بسقوط جدار برلين، فهل عبارة “الموارد البشرية” دليل على خوصصة القطاع؟ وهل تعد دليلا على جعل جميع موظفي التربية والتكوين متعاقدين؟

قديما قيل: لا مشاحة في الاصطلاح، لذلك قد يسمى الموظفون موارد بشرية، وهذا كان متحققا منذ عقود، إذ كل وزارات القطاع العام تسمي المديرية الخاصة بموظفيها بمديرية الموارد البشرية، إضافة إلى أن القانون الإطار للتربية والتكوين الصادر سنة 2019 سمى أطر القطاع بالموارد البشرية (الباب السادس).

وأزيد من الشعر بيتا وأقول، يسمي قانون الوظيفة العمومية الموظف بـ(المستخدم)، وذلك في النصوص الآتية:

الفصل 11، ونصه كالآتي: “تشتمل اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء على عدد متساو من ممثلين عن الإدارة يعينون بقرار من الوزراء المعنيين بالأمر، ومن ممثلين عن [المستخدمين] ينتخبهم الموظفون العاملون أو الملحقون بالإدارة أو المصلحة المعنية بالأمر”.

الفصل 14، ونصه كالآتي: “لا تنتج عن الانتماء أو عدم الانتماء إلى نقابة ما أية تبعة فيما يرجع لتوظيف [المستخدمين] الخاضعين لهذا القانون الأساسي العام وترقيتهم وتعيينهم، أو فيما يخص وضعيتهم الإدارية بصفة عامة”.

من هنا نتساءل، كيف يستنكر رجال ونساء التعليم تسميتهم (موارد بشرية) وفي نفس الوقت يتشبثون بقانون الوظيفة العمومية الذي يسميهم تارة (موظفين) وتارة (مستخدمين)؟.

نقول هذا مع العلم أن عبارة (الموارد البشرية) صارت عبارة عالمية عابرة للأقطار والقارات، وأنها أفضل من غيرها، خصوصا إذا عرفنا قصد واضعها الأول، حيث استعملت أول الأمر في شركة رونو بفرنسا منتصف القرن الماضي، وعلّل مبدع هذه العبارة وناحِتُها وجاهتها بما مفاده: (الموظفون) يندرجون في الأعباء les charges، أما (الموارد البشرية) فيندرجون في الاستثمار investissement، ولتوضيح وجهة نظره، بيّن أن الشركة حين تجلب (الموارد المالية) وهي المقدرة بالملايير، فإنها استثمار يعود بالنفع على المؤسسة، وكذلك الأمر بالنسبة لـ(لموارد البشرية)، فإنها كفاءات مبدعة تعود بالنفع على المؤسسة.

إشكال حضور وزير التشغيل:

بعد تأزم الوضعية داخل قطاع التربية الوطنية بفعل الحراك غير المسبوق، شكل رئيس الحكومة لجنة تضم الوزير المعني بالقطاع (شكيب بنموسى) والوزير المنتدب في الميزانية (فوزي لقجع) ووزير التشغيل (يونس سكوري)، وكان حضور هذا الأخير بمثابة الدليل القوي على خوصصة قطاع التربية الوطنية، ولست أدري كيف ساغ لبعض مؤطري التنسيقيات تكرار هذا الكلام، ولعل هذا ناتجا عن ضعف في الذاكرة أو على فقر في التسييس.

إن اللجنة التي شكلها رئيس الحكومة ليست لجنة تقنية، بل هي لجنة سياسية تشتغل تحت إشرافه، ويمكنه أن يعين فيها من يشاء من أعضاء الحكومة دون مراعاة لقطاعاتهم، وهنا أحيل على لجنة مماثلة وقعت سنة 2012 عقب أزمة دفاتر تحملات القنوات العمومية في قطاع الاتصال الذي كان يدبره الوزير مصطفى الخلفي، حيث يقيت الأزمة ثمانية أشهر، ولما تدخل الملك في إطار التحكيم استدعى عبد الإله بنكيران رئيس الحكومة وعبد الله بها وزير الدولة ومصطفى الخلفي وزير الاتصال، واستدعى معهم محمد نبيل بنعبد الله وزير السكنى، وتشكلت لجنة وزارية برئاسة محمد نبيل بنعبد الله رغم أنه وزير السكنى ولا علاقة له بالاتصال والإعلام حينذاك، وهو الأمر نفسه الذي تكرر الآن حين عُيّن الوزير سكوري في هذه اللجنة.

فإذا ساغ لنا أن نقول بأن قطاع التعليم تمت خوصصته أو في طريق الخوصصة بناء على عضوية وزير التشغيل في اللجنة، ساغ لنا أن نقول بأن الإعلام العمومي صار تابعا لقطاع السكنى منذ 2012 نظرا لرئاسة اللجنة (وليس العضوية فقط) من قبل وزير السكنى.

النظام الأساسي، بين التوظيف والتعاقد:

إذا عدنا إلى النظام الأساسي المجمد سياسيا، فإننا لا نجد البتة عبارة التعاقد أو المتعاقد أو المستخدم أو العون، بل نجده ممتلئا بعبارات الموظف والتوظيف، وهنا أحيل على النصوص الآتية:

أولا: نشرت الجريدة الرسمية وثيقة النظام الأساسي في الباب الخاص بـ(نظام [موظفي] الإدارات العامة).

ثانيا: عنوان الوثيقة كالآتي: (مرسوم في شأن النظام الأساسي الخاص بموظفي قطاع التربية الوطنية)، وهنا استعمل (موظفي) وليس (مستخدمي).

ثالثا: المادة الأولى: “يسري هذا النظام الأساسي الخاص على [موظفي] قطاع التربية الوطنية والأطر النظامية للأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين”.

رابعا: المادة 3: “تسري على الموارد البشرية أحكام النصوص التشريعية والتنظيمية المطبقة على [موظفي] الدولة”.

خامسا: الباب الثالث: “[التوظيف] والتكوين والترسيم”.

سادسا: الفرع الأول من الباب السابق: “[التوظيف] والتعيين”

سابعا: المادة 34: “[يوظف] في الدرجة الثانية ….” ومثل هذه العبارة في المواد 35 و36 و37 و38.

ثامنا: المادة 39: “استثناء من مقتضيات المادة 34 أعلاه، [يوظف] أو يعين …”

تاسعا: المادة 45: “يعين المترشحون الذين تم [توظيفهم] طبقا لمقتضيات المواد …”.

هذه نماذج حية لعبارات [التوظيف] الواردة في النظام الأساسي، حيث نقف على تجنبه لعبارات [المستخدم] أو [المتعاقد]، مع العلم أن المتعاقدين حين كانوا في قطاع التربية الوطنية كانت لكل واحد منهم رقم العقدة، ثم صار هذا الرقم من الماضي مباشرة بعد إصدار الأنظمة الأساسية الاثنى عشر، أما الآن، فلا وجود له البتة.

بناء على هذه المعطيات والمعلومات القانونية غير الإنشائية وغير الحماسية، أجدني مطمئنا إلى أمرين اثنين:

أولهما: لا وجود لشيء اسمه [المتعاقدون] أو [الذين فرض عليهم التعاقد] في قطاع التربية الوطنية، وأن جميع أطر القطاع مرتبون في سلك الوظيفة العمومية، ومن يقول بخلاف هذا فواهم لا يعضد كلامَه أيُّ قانون.

ثانيهما: أرى من الوجاهة الآن أن يتوقف رجال ونساء التعليم عن التشبث الأورثوذكسي بقانون الوظيفة العمومية لما فيه من المخاطر التي بينتُ بعضها أعلاه، إضافة إلى أنه يفرض علينا إكراهات الاشتراك فيه مع قطاعات أخرى، وإذا انفصل قطاع التربية الوطنية عن قانون الوظيفة العمومية بقانون أساسي مستقل إسوة بالقضاة أو بموظفي قطاع الصحة أو بمتصرفي وزارة الداخلية، فإنهم سيتخلصون من عبء الاشتراك مع القطاعات دون الانفصال عن القطاع العام. (حين كانت النقابات التعليمية تناضل من أجل رفع حصيص الترقي إلى 33 بالمائة أو التسقيف في الترقية أو غيرهما، فإن الإدارة كانت تواجهها بسؤال: وكيف نعمل مع القطاعات الأخرى، ولو وقع الانفصال لما أثير هذا السؤال المعرقل لآفاق النضال القطاعي).

admin

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *