الإعلام العمومي المغربي: إشكالات التسيير، غياب النقاش السياسي، و حتمية الإصلاح.

يُعد الإعلام العمومي ركيزة أساسية في تعزيز الوعي السياسي و الاجتماعي لدى المواطنين، إذ يمثل منصة للحوار المفتوح و تداول الأفكار بين مختلف الفاعلين في المشهد الوطني. غير أن الإعلام العمومي المغربي، خلال العقود الأخيرة، شهد تحولات جوهرية أثرت على أدائه، سواء من حيث المحتوى أو من حيث طبيعة النقاشات المطروحة. و من بين الإشكاليات البارزة التي تعترض هذا القطاع، يبرز غياب البرامج السياسية الجادة، وضعف التعددية في الطرح الإعلامي، بالإضافة إلى استمرار نفس النهج الإداري لفترة طويلة، مما أدى إلى جمود واضح في عملية تطويره و تحديثه.
إن أحد أهم الأدوار التي كان يؤديها الإعلام العمومي يتمثل في توفير فضاء للحوار السياسي من خلال استضافة شخصيات حكومية، فاعلين سياسيين، معارضين، و صحفيين متخصصين، حيث كانت هذه النقاشات تساهم في توضيح الرؤية حول القضايا الوطنية الكبرى. إلا أن هذا الدور بدأ يتراجع تدريجيًا، حيث لوحظ خلال السنوات الأخيرة تراجع كبير في البرامج الحوارية ذات البعد السياسي، ما أدى إلى فراغ إعلامي في هذا المجال. و نتيجة لهذا التراجع، أصبح المواطن المغربي يجد صعوبة في الوصول إلى المعلومات الدقيقة حول مختلف القضايا، مما دفعه إلى اللجوء إلى مصادر إعلامية بديلة، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو القنوات الأجنبية، و هو ما يعكس خللاً واضحًا في المنظومة الإعلامية الوطنية.
إضافة إلى ذلك، لعبت استمرارية نفس النهج الإداري داخل الإعلام العمومي لأكثر من 25 سنة دورًا رئيسيًا في حالة الجمود التي يعرفها القطاع، حيث ظلت نفس العقليات المسيرة تكرس نمطًا تقليديًا في التسيير، مما انعكس سلبًا على مستوى التجديد والتطور. و وفقًا لتصريح أمين الحميدي، النقابي و الفاعل في المجال الإعلامي، فإن هذا الاستمرار الطويل لنفس الأشخاص في مواقع المسؤولية أدى إلى غياب الابتكار و التفاعل مع التحولات المتسارعة في المشهد الإعلامي، سواء على المستوى التكنولوجي أو في طبيعة المضامين المعروضة. وأضاف الحميدي أن هذه الوضعية لم تساهم فقط في تراجع جودة المحتوى الإعلامي، بل ساهمت أيضًا في فقدان الإعلام العمومي لجاذبيته، حيث بات غير قادر على استقطاب فئات واسعة من الجمهور، خاصة في ظل المنافسة القوية التي تفرضها المنصات الرقمية و القنوات الدولية.
و في سياق تحليل وضعية القطاع الإعلامي، سلطت لطيفة أخرباش، رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، الضوء على مجموعة من الإشكالات التي يواجهها الإعلام العمومي، و ذلك في تقرير “الهاكا” السنوي لسنة 2023. و أشارت إلى أن هشاشة القطاع الإعلامي المغربي أصبحت بنيوية، نتيجة التغيرات المتسارعة التي يشهدها المجال السمعي البصري على المستوى العالمي. كما أكدت على ضرورة تبني إصلاحات هيكلية عميقة تهدف إلى تعزيز استدامة الإعلام العمومي و ضمان تنوعه، داعية إلى تحديث الإطار القانوني و الاستراتيجي الذي ينظم القطاع، بما يسمح له بالتكيف مع التحولات الرقمية و التحديات الاقتصادية الجديدة. و اعتبرت أخرباش أن غياب رؤية إصلاحية متكاملة سيؤدي إلى استمرار تراجع الإعلام العمومي، مما سيضعف دوره في التوجيه و التثقيف و التوعية.
إلى جانب التحديات المرتبطة بالتسيير، ساهم تغييب البعد الاجتماعي في تدبير الإعلام العمومي في تكريس حالة الفشل في تطوير هذا القطاع وجعله أكثر ارتباطًا بتطلعات المواطنين. فبدل أن يكون الإعلام العمومي فضاءً يعكس التنوع المجتمعي و يطرح قضايا ذات صلة مباشرة بحياة المواطنين، تم التركيز على محتوى يفتقر في كثير من الأحيان إلى العمق الاجتماعي و التفاعلية المطلوبة. و وفقًا لما أشار إليه النقابي أمين الحميدي، فإن غياب استراتيجية إعلامية تراعي البعد الاجتماعي أدى إلى فقدان الإعلام العمومي لوظيفته الأساسية كأداة لنقل انشغالات المجتمع، ما جعله منفصلاً عن هموم المواطنين و غير قادر على معالجة قضاياهم بشكل جدي و فعال.
إن تغييب البرامج الحوارية و الاجتماعية التي تناقش مواضيع مثل الصحة، التعليم، التشغيل، و الفوارق الاجتماعية أدى إلى خلق فجوة بين المواطن و الإعلام، حيث بات المشاهد يبحث عن منصات بديلة للحصول على المعلومات التي تهم حياته اليومية. وفي ظل هذه الوضعية، تحول الإعلام العمومي إلى جهاز يشتغل وفق رؤية نمطية، لا تراعي التغيرات الاجتماعية و لا تستجيب لتحديات المرحلة، مما ساهم في تراجعه و فقدانه لمكانته في المشهد الإعلامي الوطني.
و من منظور تأثير هذا الوضع على المشاهد المغربي، فإن غياب النقاش السياسي في الإعلام العمومي انعكس بشكل سلبي على مستوى الوعي السياسي للمجتمع. فبدون فضاءات إعلامية حرة و شفافة، يجد المواطن نفسه أمام مشهد إعلامي يغلب عليه الطابع الرسمي، في حين أن التحليل النقدي و النقاش الموضوعي للقضايا الوطنية أصبحا شبه غائبين. كما أن غياب التنوع في وجهات النظر داخل الإعلام العمومي ساهم في خلق فجوة بين المؤسسات الحكومية و المجتمع، حيث لم تعد هناك قنوات فعالة للحوار المباشر بين صناع القرار و المواطنين.
لضمان استعادة الإعلام العمومي لدوره الحقيقي، يتوجب اتخاذ مجموعة من الإجراءات الإصلاحية، من بينها إعادة إحياء البرامج الحوارية السياسية التي تسمح بمناقشة السياسات العامة بوضوح و شفافية، مع إشراك مختلف الفاعلين في المشهد السياسي و الإعلامي. كما يجب منح الصحفيين مزيدًا من الاستقلالية في معالجة القضايا الوطنية، بعيدًا عن الخطاب الرسمي الموجه، و تعزيز التعددية داخل المشهد الإعلامي بما يضمن وجود آراء متباينة و متوازنة. إضافة إلى ذلك، من الضروري تطوير الإطار القانوني الذي ينظم القطاع الإعلامي، بما يسمح بمواكبة التغيرات الرقمية و تعزيز حرية التعبير وضمان جودة المحتوى الإعلامي.
و بناءً على ما سبق، يمكن القول إن الإعلام العمومي المغربي يواجه تحديات جوهرية تستدعي إصلاحًا شاملاً يطال مختلف مكوناته، سواء على مستوى المحتوى، أو على مستوى التسيير والإدارة. فالتطورات المتسارعة التي يشهدها العالم في المجال الإعلامي تفرض على الفاعلين في هذا القطاع تبني استراتيجيات جديدة تضمن مواكبة هذه التحولات، بما يعيد للإعلام العمومي مكانته كمصدر رئيسي للمعلومة، و فضاء للحوار الديمقراطي، و أداة لتعزيز الوعي المجتمعي. إن الاستمرار في نفس النهج التقليدي دون إدخال إصلاحات جوهرية قد يؤدي إلى مزيد من التراجع في التأثير و المتابعة، مما يستدعي تدخلًا عاجلًا لضمان إعلام وطني قوي، قادر على الاستجابة لتطلعات المواطن المغربي، و مواكبة التطورات الإعلامية على المستوى الدولي.